مجتمع

عزلة الدولة العظمى: هل تولي واشنطن ظهرها للعالم حال فوز ترامب؟

هل يعني احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض انسحاباً حتمياً للولايات المتحدة من العالم في ظل تردد مخاوف من ميوله الانعزالية ووعوده الانتخابية؟

future صورة تعبيرية (هل تولي واشنطن ظهرها للعالم حال فوز ترامب؟)

في الأجواء الانتخابية المشحونة في الولايات المتحدة تتردد مخاوف، خصوصاً بين المعسكر الديمقراطي، من الميول الانعزالية للرئيس السابق دونالد ترامب مرشح الجمهوريين، الذي وعد بتحرير واشنطن من أعبائها الخارجية وتركيز انتباهها على الداخل.

في خطاب تنصيبه عام 2017، تعهد ترامب بأن:

«الرجال والنساء المنسيين في بلادنا لن يُنسوا بعد الآن، ومن هذه اللحظة فصاعداً، ستكون أمريكا أولاً، وسوف يُتخذ كل قرار بشأن التجارة والضرائب والهجرة والشئون الخارجية لصالح العمال والأسر الأمريكية».

نال هذا الوعد دعم ملايين الأمريكيين الذين شعروا حينها، ولا يزالون يشعرون بأنهم تخلفوا عن الركب بسبب استنزاف موارد بلادهم في الخارج، ورغم أن ترامب لم يفِ بوعوده فإن بقاء مشاكل كالبطالة وغيرها جعل خطابه الانتخابي المعتمد على المظلومية يتمتع بجاذبية كبيرة.

أعلن ترامب تشككه في التعاون الدولي بحجة أنه يقيد بلاده؛ إذ قال للجمعية العامة للأمم المتحدة، «لن نسلم سيادة أمريكا أبداً إلى بيروقراطية عالمية غير منتخبة وغير مسئولة»، مُضيفاً «نحن لا نسعى إلى فرض أسلوب حياتنا على أي شخص. أحترم حق كل دولة في هذه الغرفة في متابعة عاداتها ومعتقداتها وتقاليدها». وفي فترة حكمه السابقة بدأ عملية إنهاء الوجود الأمريكي في أفغانستان، واليوم يتعهد بفرض مجموعة من التعريفات الجمركية الجديدة إذا أعيد انتخابه، بما في ذلك 60% على جميع السلع الصينية و10% على منتجات بقية الدول.

الظاهرة الانعزالية

يشكك ترامب في جدوى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما يشكك أعضاء الحلف في وفاء الولايات المتحدة بالتزاماتها تجاههم إذا عاد الرئيس السابق إلى البيت الأبيض، خصوصاً وأنه صرح في فبراير الماضي بأنه سيشجع روسيا على غزو أراضي أعضاء الناتو الذين لا يوفون بالتزاماتهم المالية في الحلف، وقال إنه سيفكر في السماح لروسيا بالسيطرة على جزء من أوكرانيا لإنهاء الحرب، وبالطبع لا يتحمس لمنح أوكرانيا عضوية الناتو.

لا يمثل هذا الخطاب الانعزالي وجهة نظر ترامب فقط، بل أظهر استطلاع أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية أن 53% من الجمهوريين يفضلون أن تبقى دولتهم بعيدة عن الشؤون العالمية بدلاً من الاضطلاع بدور نشط، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الاستطلاع الذي دام 49 عاماً التي يتبنى فيها أغلبية الجمهوريين هذا الرأي.

ووفقاً لمسح أجراه مركز «بيو للأبحاث» في شهري نوفمبر وديسمبر 2023، فإن 48% من الجمهوريين ومؤيديهم يقولون إن دولتهم تقدم مساعدات لأوكرانيا بشكل مفرط أكثر من اللازم، ويتفق معهم 16% فقط من الديمقراطيين.

يمر الحزب الجمهوري اليوم بتغيير كبير؛ إذ يتخلى عن الأسواق الحرة والمشاركة الدولية تدريجياً، ويرى الجمهوريون المعارضون لمساعدة أوكرانيا أن الأمر عديم الفائدة وأن الوقت حان لتعترف كييف بالهزيمة، وكتب أكثر من 20 برلمانياً جمهورياً في رسالة يعلنون فيها معارضتهم للمساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، قائلين، «يستحق الشعب الأمريكي أن يعرف أين ذهبت أمواله، كيف تسير عملية الهجوم المضاد؟ هل أصبح الأوكرانيون أقرب إلى النصر مما كانوا عليه قبل ستة أشهر؟». وبحسب السيناتور الجمهوري تومي توبرفيل، أحد أصحاب الرسالة المذكورة، فإن ترامب «سيُوقِف الأمر عندما يصل إلى السلطة».

يزداد عدد أنصار شعار «أمريكا أولاً»، وهم يرون أن بلادهم أصبحت مفرطة التوسع، وأن العمال الأمريكيين حُرموا من فوائد التجارة الحرة، وأن الولايات المتحدة بحاجة إلى التركيز على احتياجاتها في الداخل ومنع الهجرة إليها، لا سيما عبر الحدود الجنوبية.

أخطار الانعزالية

في خطاب ألقته في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير الماضي، حاولت نائبة الرئيس كامالا هاريس المرشحة الديمقراطية الحالية للرئاسة الدفاع عن استمرار القيادة العالمية للولايات المتحدة، محذرة من أخطار التخلي عن الحلفاء قائلة،

«أظهر لنا التاريخ أننا إذا نظرنا إلى الداخل فقط، لن نتمكن من هزيمة التهديدات من الخارج؛ فالعزلة ليست عزلة، والواقع أن التهديدات تزايدت عندما عزلت أمريكا نفسها».

يعد بريت ماكجورك المبعوث الرئاسي الخاص السابق لترامب في الحملة ضد «داعش»، الذي استقال عام 2018، أن «الميزة النسبية التي لا مثيل لها» لأمريكا ضد كل من الصين وروسيا، كانت دائماً قدرتها على بناء التحالفات والحفاظ عليها، أو بعبارة أخرى، النظر إلى القوة ليس فقط على أنها ما يمكن لدولة واحدة أن تفعله بمفردها. وسرد ماكجورك إنجازات الولاية الرئاسية لترامب، وهي «الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، والخروج من اتفاق باريس للمناخ، والتخلي عن الشراكة عبر المحيط الهادئ، والسماح بانقضاء معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وتخريب الاتفاق النووي الإيراني».

يشير لويس لوكينز نائب رئيس البعثة السابق في السفارة الأمريكية في لندن، إلى أن النهج الأحادي لترامب يجعله يشعر بالصلابة، وهو ما يجذب بعض مؤيديه، لكن الواقع هو أنه يترك الدولة في حالة ضعف، لأن حلفاءها لا يثقون بها كما كان في السابق.

بعد أيام من أدائه اليمين، تخلى ترامب عن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية تجارية تضم 12 دولة منهم حلفاء أمريكيين أقوياء مثل أستراليا وكندا واليابان، التي تم تصميمها كوسيلة لاحتواء النفوذ الاقتصادي لبكين. يقول السيناتور الجمهوري السابق دان كوتس الذي شغل منصب مدير الاستخبارات الوطنية في عهد ترامب، إن إلغاء معاهدة الشراكة عبر المحيط الهادي أفقدت الولايات المتحدة كثيراً من النفوذ.

مخاوف الحلفاء.. ألمانيا مثالاً

لا تعد الانتخابات الأمريكية حدثاً محلياً؛ بل إن حلفاء واشنطن يحسبون حساباتهم بكل جدية لدراسة سيناريو عودة ترامب للبيت الأبيض، فمثلاً في وزارة الخارجية الألمانية، شكل مسئولو مكتب أمريكا الشمالية بالوزارة وموظفو تخطيط السياسات، ومكتب منسق التعاون عبر الأطلسي، وسفارة ألمانيا في واشنطن، مجموعة أزمة غير رسمية لمناقشة ما قد يعنيه فوز ترامب بالنسبة لألمانيا، وكيف ينبغي لبرلين أن تتعامل مع الحدث.

انتشر القلق الوجودي في برلين، لأن ترامب هاجم الأسس التي قام عليها الاقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية؛ فالصادرات القوية والحدود المفتوحة والتجارة الحرة، تعتمد على المظلة الأمنية الأمريكية. والآن تواجه أوروبا احتمالات أن تتخلى الإدارة الجديدة في واشنطن عن بعض الضمانات الأمنية التي دعمت استقرار أوروبا منذ تأسيس حلف الناتو عام 1949، ويستغرق الأمر سنوات للتكيف مع ذلك من خلال إعادة التسلح وتجهيز الجيوش، وخلال هذه الفترة ستصبح ألمانيا أكثر عرضة للتهديد الروسي.

خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب، كانت ألمانيا واحدة من أكياس الملاكمة المفضلة لديه من خلال سفيره في برلين، ريتشارد جرينيل الذي يُنظر له على نطاق واسع باعتباره وزير الخارجية المنتظر؛ فهاجم برلين بشكل روتيني بسبب اعتمادها في مجال الطاقة على روسيا وفشلها في إنفاق 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو الهدف الذي تم تحديده في قمة حلف شمال الأطلسي في عام 2014، ولم تتمكن المستشارة أنجيلا ميركل من تحقيقه.

عندما زارت ترامب في واشنطن بعد وقت قصير من توليه منصبه، قال لها، «أنجيلا، أنت رائعة، ولكنك مدينة لي بتريليون دولار»، وفرض رسوماً جمركية عقابية على واردات الاتحاد الأوروبي من الصلب والألومنيوم، وهدد بفرض مزيد من الرسوم الجمركية على واردات السيارات، وهي الخطوة التي كانت ستؤدي إلى كارثة لصناعة السيارات الألمانية.

لكن في السنوات القليلة الماضية، حاولت ألمانيا إصلاح عديد من القضايا التي انتقدها ترامب بسببها، مما قد يخفف من عدائه لها؛ فبعد غزو موسكو لأوكرانيا عام 2022، توقفت واردات برلين من الغاز الروسي وتحولت إلى الولايات المتحدة.

يعتقد بعض المسئولين في برلين أن إدارة ترامب لن تتبنى قطيعة جذرية مع السياسة الخارجية الحالية، وستظل ملتزمة بالتحالفات التقليدية، لكن معظمهم يتفقون على أن اهتمام الولايات المتحدة من المحتم أن يتحول بعيداً عن أوروبا إلى آسيا، مما يترك لألمانيا دوراً قيادياً أكبر في جوارها.

تستعد ألمانيا لعودة رئيس يتبنى سياسة اقتصادية أكثر حمائية من تلك التي تبناها خلال ولايته الأولى، بما في ذلك التهديد بفرض تعريفات جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات، وهي الخطوة التي قد تلحق أضراراً جسيمة بالاقتصاد الألماني القائم على التصدير، واشتدت حدة القلق عندما اختار ترامب، جيه دي فانس ليكون نائباً له، وهو قومي اقتصادي متشكك بشدة في العولمة وحلف الناتو، ويُوصف بأنه أكثر تطرفاً من ترامب في رغبته في تعليق جميع المساعدات العسكرية الأمريكية الإضافية لأوكرانيا.

أثر التاريخ والجغرافيا

منحت الجغرافيا للولايات المتحدة خيار العزلة؛ فلا يحدها من الشرق والغرب إلا المحيطان الأطلسي والهادي، ومن الشمال كندا والجنوب المكسيك، فلا توجد تهديدات من القوى الإقليمية، رغم اتساع مساحتها إلى ما يقل قليلاً عن 10 ملايين كيلومتر مربع.

نشأ تبني الولايات المتحدة المبكر للعزلة من الاعتقاد الراسخ لدى المؤسسين بأن الطموحات الخارجية ستأتي على حساب الحرية والازدهار في الداخل؛ فالتورط في منافسات القوى العظمى يتطلب حكومة فيدرالية كبيرة ومؤسسة عسكرية، مما يشجع الاستبداد في الداخل ويستنزف موارد الدولة.

تم ترسيخ هذه النظرة في ممارسات الساسة الأمريكيين في الماضي؛ ففي عام 1793، تراجع جورج واشنطن من جانب واحد عن التحالف مع فرنسا الذي تم عقده عام 1778، لأنه اعتبر أن جر البلاد إلى حرب أخرى مع المملكة المتحدة يتعارض مع المصلحة الوطنية، ولم تُبرم الولايات المتحدة تحالفاً عسكرياً آخر لأكثر من قرن ونصف، إلى أن فعلت ذلك من خلال معاهدة تأسيس حلف الناتو عام 1949.

لكن أنصار «نظرية الأممية» يرون أنه حتى لو كانت الانعزالية منطقية في السابق، عندما كانت المحيطات الشاسعة توفر الأمن الطبيعي للولايات المتحدة، فإن عالم اليوم لا يوفر مثل هذه الرفاهية، بسبب التطورات العديدة، كالصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والترابط الاقتصادي العالمي، وترابط الفضاء الإلكتروني، وتغير المناخ، فلم يعد الانفصال الاستراتيجي والتصرف بانفراد خيارات قابلة للتطبيق.

الترامبية ليست انعزالية كاملة

يبدو النهج الترامبي كاتجاه عام، أكثر من كونه استراتيجية مدروسة للانسحاب من العالم، فهو يُعبر عن رغبة في التفوق لكن من دون الآثار الجانبية لهذا التفوق، أي ترك الانخراط في المشاكل الدولية دون قبول تراجع القوة والتأثير بسبب ذلك.

فشل ترامب في ولايته السابقة في تحويل الرؤى المشروعة إلى سياسات عملية تحقق الكثير إلى ما هو أبعد من الانسحاب الأمريكي من المعاهدات الدولية، فحاول احتواء قوة الصين، لكن سياسته الخارجية بدت كأنها مصممة لعكس ذلك تماماً؛ فبدلاً من حشد الحلفاء في أوروبا وآسيا لتشكيل كتلة ضد بكين، استهدفهم بالرسوم الجمركية، وبدلاً من ممارسة الضغوط من خلال المؤسسات المتعددة الأطراف التي تقودها الولايات المتحدة، انسحب منها.

يبدو ترامب وكأنه يرى أن القوة هي الإمكانيات الأحادية فقط، أي القوة الخام، لذلك تخلص من بعض الارتباطات الدولية ليستخدم القوة الأمريكية العظمى بأقصى ما يمكنه، فشن حرباً تجارية ضد الصين بمفرده، وأعلن سحب جزء من القوات الأمريكية من ألمانيا دون إبلاغها، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران بمفرده، لذلك اتُهم بأن محاولاته المتواصلة لإظهار القوة الأمريكية لم تفعل سوى تسريع إضعافها.

يحمل النهج الترامبي روحاً انعزالية واضحة لكن عند التدقيق لا يبدو انعزالياً تماماً، فكما كتب تشارلز كوبشان في كتابه «الانعزالية: تاريخ جهود أمريكا لحماية نفسها من العالم»:

«إن الانعزالية استراتيجية كبرى، تهدف إلى فك الارتباط بالقوى الأجنبية، وتجنب الالتزامات الاستراتيجية الدائمة خارج الوطن الأم لأمريكا الشمالية».

وهنا يبتعد ترامب عن الانعزاليين الحقيقيين مثل السيناتور راند بول من كنتاكي؛ فترامب لا يشكو من وجود حلف الناتو في حد ذاته، بل يشكو من أن الحلفاء لم يدفعوا ما يكفي مقابل الحماية الأمريكية، فإذا دفعوا ما يطلبه انتهت المشكلة.

يشير ذلك إلى حقيقة مفادها أن احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض في يناير المقبل لا تعني انسحاباً حتمياً للولايات المتحدة من العالم، وسوف تعتمد الخيارات التي يتخذها إلى حد كبير على ما إذا كان أصدقاء وحلفاء أمريكا سيوفون بوعودهم، ببذل مزيد من الجهد وخلق مساحة له للتفاخر بمهاراته في عقد الصفقات؛ فالوجود الأمريكي في الخارج غالباً سيستمر أياً كان الفائز في الانتخابات الرئاسية، وهذا لا يتعارض مع حقيقة أن النفوذ الأمريكي حول العالم يتراجع ببطء على غير رغبة الديمقراطيين والجمهوريين على السواء.

# الولايات المتحدة الأمريكية # الانتخابات الأمريكية # سياسة # دونالد ترامب # كامالا هاريس # انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024

من هو ماركو روبيو المرشح لمنصب وزير الخارجية الأمريكي؟
هيجسيث: وزير دفاع يكره المرأة في الجيش الأمريكي
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

مجتمع